Posts

تحت الضغط

Image
  علاقتي بالعمل كانت، ولازالت، ملتبسةً ومريبةً جدا. حين كنتُ في أول سنوات مراهقتي، كنتُ أتحين أول فرصة كي أستطيع العمل فيها، كي أبرهن لوالدتي و أقراني أنني قادر على "الإنتاج"، على "العمل" وبيع ساعات حياتي مقابل مليمات قليلة٫ وربما، إحداث فرق ما في هذا العالم، وأنني لست فردًا مستهلكًا فقط. كل ما أردتهُ كان هاتفًا جوالا وبعض الأدباش ونظارات شمسية رخيصة من الحي التجاري في أقاصي مدينة سيدي بوزيد، وجالاً أثبّت به شعري الكثيف المجعد. كل ذلك كان يتكلف دنانيرًا معدودة لكنني لم أكن أملكها، وكان يتوجب عليّ إيجاد عملٍ بأية طريقة في مدينة تتربع على عرش البطالة. تحصلتُ على فرصة للعمل أول مرة حين كنت أبلغ الرابعة عشر، في مطعم كبير معروف وسط المدينة. كان "مطعم كمال" إحدى أكثر المطاعم اكتظاظًا في المدينة على مدار اليوم، منذ السادسة صباحًا حين يقدم الناس والفلاحون من الريف من أجل صحن الشربة ( شربة حارة على السادسة صباحا، نعم) ، الى حدود السادسة مساءً حيث يبدأ الناس في مغادرة وسط المدينة وإغلاق المحلات التجارية ومراكز عملهم وجميع الإدارات الصغيرة المتراصة جنبًا الى جنب في م

خالتي عيشة

Image
  هاني بش نسميها خالتي عيشة، تحفظا على الهوية. أما مازلت نتذكر بلباهي عام الفين وستة ولا هي هي الفين وخمسة، كنت طفل صغير، نمشي مع اولاد حومتي، مفقّرون جميعًا وبعضنا حافي القدمين تحولت جلدة ساقيه الى نعل جاف يابس من كثرة السير، كي نعمل في "منشر" الطماطم، مجمع كبير يبعد عنا اربعة كيلومترات سيرًا شبيه بمعسكر الاعتقال، تحيطه الأشلاك الشائكة والكثير من الاسمنت. كنا نقف، أطفالا تحت شمس الصيف الحارقة، كي يأتي سي عبد القادر، أو قدور كما كانو ينادونه، ويتأملنا، يجسنا، ويختار البعض ممن حالفه الحظ العظيم للعمل ذلك اليوم، أما البقية، فالله غالب، وعليهم اتخاذ مسلك العودة ذي الكيلومترات العديدة, العمل؟ كنا نهزو قاجوات الطماطم، نحطوهم في جابية، بش زعمة زعمة يتغسلو، ومبعد يتقشروا، ومبعد يعبوانا معاهم في كماين، والطماطم هاذيكا لازمها تتنشر في شبك تحت الشمس بش تتشيح وتترحى ويقع تصديرها لايطاليا، كنا نعمل تحت الشمس لمدة ثمان ساعات، تسع أو عشر ساعات احيانا، لا رقيب ولا ضوابط، مقابل كم؟ خمس دينارات ونصف، نعم، وكثير من الصراخ والاهانة والسخرية. اتذكر جيدا احتراق اجزاء من جسدي بسبب الملح والماء ال

هلع

Image
  من أكثر التجارب المرعبة لي مريت بيهم هوما نوبات الذعر، أو نوبات الهلع، أو ال panic attacks. طبعا مثماش ترجمة واضحة بالعربية نظرا لعدم الاهتمام بالموضوع أصلا، حتى انو الanxiety ترجمناها للقلق ولي هي مرادف عربي بعيد جدا عن المعنى المُراد من الكلمة، وحتى الهلع فهو كمصطلح فهو محاولة للاقتراب من المعنى. نوبات الهلع شبيهة جدا في العوارض الأصلية، وتقريبا تحمل نفس أعراض النوبات القلبية (heart attack) والسكتة الدماغية (stroke)، تحس قلبك بش ياقف، بش ينفجر من قوة وسرعة وارتفاع الدقات بشكل جنوني، يتقص عليك النفس تماما، وتولي تبربص، وأحيانا تفقد الوعي وترد وتدوخ وفمك يشيح ويولي شوك في حلقك وحجر. تعرضت لنوبات هلع في تونس وفي أمريكا ومرة في الطيارة في السماء، في تونس نمشي للاستعجالي والطبيب يحاول يعطيني مهدئات بش نرتاح كيما سيداتيف، ويصارحني ويقلي راهو بلحق منجموا نعملوا شي آخر، وفي امريكا كيف كيف مع اختلاف في جرعات البوتاسيوم والمورفين أحيانا وتحاليل اخرى للتثبت من عدم وجود أسباب أخرى. عمري ما ننسى الفجعة وسيارة الاسعاف والهبوط الحاد في دقات القلب واضطراب الممرض المساعد وجرعات المهدئ وفمي لي تشقق

وِحدة

Image
  أتصور، أن اكبر اكتشاف تعلقت به في الأربع سنوات الأخيرة، كان هو الوحدة. لم يكن الاكتشاف الكبير السفر، ولا الاغتراب، ولا اللغة ولا الحضارة: كان الوحدة، الوحدة الحقيقية. لم يعني ذلك أبدًا أنني كنتُ وحيدا فيزيائيًا: بالعكس، كان الوجود في أمريكا بابا مفتوحًا كبيرًا، كنت ألتقي الناس كل يوم. الا أنني أصبحتُ وحيدًا حقيقيا، بالمعنى الروحي. أصبحتُ أجلس مع الشخص، أو النديم، أو الصديقة المعجب بها، ونتحدث لفترة طويلة، دون أن تنقصَ من درجة وحدتي انمُلةٌ واحدةٌ. أصبح هناك جدارٌ، جدارٌ كبير جدا، وسميك بشكل مرعب، يحول بيني وبين لمس دواخل الآخر، حتى أصبح البشر الذي يحاول التواصل معي، يفشل فشلاً ذريعا، بينما ينجح قط، او سنجاب في الحديقة الشاسعة، او كرسي، في ذلك. اشتقتُ أن أحس أنني مع شخص ما، أن أحس بالرفقة: الرفقة هي التعبير المثالي لما ينقصني بشدة. أنا لا اتحدث عن حب أو صداقة او محبة أو لقاءات او معرفة أو شبكة علاقات او صداقات، كل ذلك يحدثُ كل يوم. أنا أتحدث عن الرفقة الحقيقية، التي لا تحتاج حتى الكلام كي تشتعل كالنار. أتذكر جيدا أنني كنتُ اجلس مع صديق الطفولة والمراهقة، أمام بيت منزلهم الكبير في ليل

سفر

Image
  أنا في واشنطن الآن، ويجب أن أعود الى المنزل، ولم أقتن تذكرة العودة. كنت في احدى السفارات لطلب تأشيرة دخول، كالعادة، نفس النظرات، نفس الأسئلة، لماذا أنت قادم الى هنا، كم ستظل في هذا البلد، متى تعود؟ هل أتيت من قبل الى هنا؟ نريد بصماتك، ابهامك، اصابعك الأخرى دون الوسطى، كم أردت وضع الوسطى فقط على آلته. اجلس، نريد تصويرك، مِل الى اليمين قليلا، لا تغلق عينيك، لا تتحرك، تراجع الى الخلف أكثر، لا تلمس الزجاج بيني وبينك، حادثني بالميكروفون الذي بجانبك. أين تأمينك الصحي، أين كشوفات حساباتك البنكية، هل هذا حسابك البنكي الوحيد؟ لماذا أنت في أمريكا؟ في أي كلية تدرس؟ جوازك سيظل معنا، ثمانون دولارا، مع السلامة. أخرج ململِمًا أوراقي بعد انتهاء المقابلة التسولية، أسوي قبعة رأسي وأضع السماعات الكبيرة في محاولة بائسة لتدفئةٍ مضاعفة لأذني، أتوجه نحو منطقة أدامز مورقن، أخبرني سائق التاكسي أنها احدى المناطق الرخيصة في واشنطن، بعد أن ملأ رأسي عن بالحديث عن بلده كوريا الجنوبية وهجرته منها حالما بغد أفضل بعد كان صاحب مطعم هناك لينتهي به الأمر هنا سائقًا. تتغير الشوارع ، وترسم ملامح جديدة مغايرة كثيرة للمدين

هجرة مؤقتة بلا عودة.

Image
  حين هاجرت، قمتُ بالاقدام على الانتحار. أنا لا أكذب عليك هنا، لقد قمتَ بقراءة العبارة بالشكل الصحيح: لقد أقدمتٌ على الانتحار. حين تقوم بمغادرة بوابة المطار في بلدك، وتذهب الى بلدٍ آخر، بنية الهجرة لا بنية الزيارة، فأنت تموت هناك، تقع روحك على عتبات باب المغادرة، ولا ترحل معكَ أبدًا. حين تقلع الطائرة، تقلع معها روحك، وتصعد للسماء، فعلٌ مثل عملية الموت تماما وصعود الروح الى عالمٍ آخر. وحين تبلغ الطائرة مطار بلد الاستقبال، وتجد نفسك في بلد آخر، أنت لستَ أنتَ بعد الآن، بصفة نهائية أيضًا. لمَ أقول ذلك؟ لأنكَ تخسر كل شيء حرفيا: أصدقائك الذين كنت تذهب معهم كل يوم الى كل مكان، لم يعودوا معك الحانات الذي كنتَ ترتادها وتحبها، والمقاهي الصغيرة بالكراسي البيضاء البلاستيكية في الحي والتي كنتَ تحب الجلوس فيها لساعات في ساعات مراهقتك ثم ساعات شبابك الأولى، لم تعد على مرمى حجر منك، الى الأبد. صباح بيتكَ الدافئ مع العائلة، وابتسامة والدتك مع السابعة والنصف صباحا وهي تقدم لك القهوة بالحليب وسندويتش الزبدة ومعجون السفرجل الدافئ، انسَ ذلك تمامًا. هل تذكُر لعبك الأول وأنت طفل، ألفتك الكبيرة مع الشوارع وا

Allegro non troppo

Image
  Allegro non troppo الى أين قد تحملكَ الموسيقى؟ لا أعلم، لكن هاته المقطوعة مثلا، تحملك الى كل متناقضاتك. صدق من قال أنه يجب علينا الامتنان للموسيقى بالكثير، كيف كانت ستكون حياتي دون موسيقى؟ جحيمًا كبيرًا. تخيل أن أستعمل مترو الأنفاق النتن الصدأ الغبِر كل يوم دون موسيقى تصدع في أذني؟ او ان أتمشى في الحديقة الكبيرة القريبة من محل سكناي دون باخ أو هانز زيمر أو بوشناق ضاربة مرابض رأسي؟ سيكون ذلك كارثيا. للموسيقى قدرة سحرية على تحويل اليومي الى استثناء، وعلى تحويل المشاهد العادية الى لقطات من فلمٍ سنمائي. اليومَ، كالعادة، قمت بمحاولة لتجميل واقعي اليومي، ووضعتُ السماعات في أذني كي تزين الموسيقى المشاهد اليومية التي أراها، المتشردون النائمون على الطريق، سيارة البوليس وهي تلاحق بعض الهاربين، الفضلات الملقات على قارعة الطريق في كل مكان، وأركان المدينة الهائلة المرتفعة حتى ناطحات السحاب مطلة على الله محاولةً الحديث معهٌ مباشرة. تمشيتُ وتمشّيت، انعطفت مع شارع ميرتل الواسع، حيث تنتشر المطاعم والمقاهي والحانات على الجانبين،وكذلك مدخنو الماريخوانا الكُثر. في النهاية، الماريخوانا هنا ليست مباحة، لك