Posts

Showing posts from 2022

وِحدة

Image
  أتصور، أن اكبر اكتشاف تعلقت به في الأربع سنوات الأخيرة، كان هو الوحدة. لم يكن الاكتشاف الكبير السفر، ولا الاغتراب، ولا اللغة ولا الحضارة: كان الوحدة، الوحدة الحقيقية. لم يعني ذلك أبدًا أنني كنتُ وحيدا فيزيائيًا: بالعكس، كان الوجود في أمريكا بابا مفتوحًا كبيرًا، كنت ألتقي الناس كل يوم. الا أنني أصبحتُ وحيدًا حقيقيا، بالمعنى الروحي. أصبحتُ أجلس مع الشخص، أو النديم، أو الصديقة المعجب بها، ونتحدث لفترة طويلة، دون أن تنقصَ من درجة وحدتي انمُلةٌ واحدةٌ. أصبح هناك جدارٌ، جدارٌ كبير جدا، وسميك بشكل مرعب، يحول بيني وبين لمس دواخل الآخر، حتى أصبح البشر الذي يحاول التواصل معي، يفشل فشلاً ذريعا، بينما ينجح قط، او سنجاب في الحديقة الشاسعة، او كرسي، في ذلك. اشتقتُ أن أحس أنني مع شخص ما، أن أحس بالرفقة: الرفقة هي التعبير المثالي لما ينقصني بشدة. أنا لا اتحدث عن حب أو صداقة او محبة أو لقاءات او معرفة أو شبكة علاقات او صداقات، كل ذلك يحدثُ كل يوم. أنا أتحدث عن الرفقة الحقيقية، التي لا تحتاج حتى الكلام كي تشتعل كالنار. أتذكر جيدا أنني كنتُ اجلس مع صديق الطفولة والمراهقة، أمام بيت منزلهم الكبير في ليل

سفر

Image
  أنا في واشنطن الآن، ويجب أن أعود الى المنزل، ولم أقتن تذكرة العودة. كنت في احدى السفارات لطلب تأشيرة دخول، كالعادة، نفس النظرات، نفس الأسئلة، لماذا أنت قادم الى هنا، كم ستظل في هذا البلد، متى تعود؟ هل أتيت من قبل الى هنا؟ نريد بصماتك، ابهامك، اصابعك الأخرى دون الوسطى، كم أردت وضع الوسطى فقط على آلته. اجلس، نريد تصويرك، مِل الى اليمين قليلا، لا تغلق عينيك، لا تتحرك، تراجع الى الخلف أكثر، لا تلمس الزجاج بيني وبينك، حادثني بالميكروفون الذي بجانبك. أين تأمينك الصحي، أين كشوفات حساباتك البنكية، هل هذا حسابك البنكي الوحيد؟ لماذا أنت في أمريكا؟ في أي كلية تدرس؟ جوازك سيظل معنا، ثمانون دولارا، مع السلامة. أخرج ململِمًا أوراقي بعد انتهاء المقابلة التسولية، أسوي قبعة رأسي وأضع السماعات الكبيرة في محاولة بائسة لتدفئةٍ مضاعفة لأذني، أتوجه نحو منطقة أدامز مورقن، أخبرني سائق التاكسي أنها احدى المناطق الرخيصة في واشنطن، بعد أن ملأ رأسي عن بالحديث عن بلده كوريا الجنوبية وهجرته منها حالما بغد أفضل بعد كان صاحب مطعم هناك لينتهي به الأمر هنا سائقًا. تتغير الشوارع ، وترسم ملامح جديدة مغايرة كثيرة للمدين

هجرة مؤقتة بلا عودة.

Image
  حين هاجرت، قمتُ بالاقدام على الانتحار. أنا لا أكذب عليك هنا، لقد قمتَ بقراءة العبارة بالشكل الصحيح: لقد أقدمتٌ على الانتحار. حين تقوم بمغادرة بوابة المطار في بلدك، وتذهب الى بلدٍ آخر، بنية الهجرة لا بنية الزيارة، فأنت تموت هناك، تقع روحك على عتبات باب المغادرة، ولا ترحل معكَ أبدًا. حين تقلع الطائرة، تقلع معها روحك، وتصعد للسماء، فعلٌ مثل عملية الموت تماما وصعود الروح الى عالمٍ آخر. وحين تبلغ الطائرة مطار بلد الاستقبال، وتجد نفسك في بلد آخر، أنت لستَ أنتَ بعد الآن، بصفة نهائية أيضًا. لمَ أقول ذلك؟ لأنكَ تخسر كل شيء حرفيا: أصدقائك الذين كنت تذهب معهم كل يوم الى كل مكان، لم يعودوا معك الحانات الذي كنتَ ترتادها وتحبها، والمقاهي الصغيرة بالكراسي البيضاء البلاستيكية في الحي والتي كنتَ تحب الجلوس فيها لساعات في ساعات مراهقتك ثم ساعات شبابك الأولى، لم تعد على مرمى حجر منك، الى الأبد. صباح بيتكَ الدافئ مع العائلة، وابتسامة والدتك مع السابعة والنصف صباحا وهي تقدم لك القهوة بالحليب وسندويتش الزبدة ومعجون السفرجل الدافئ، انسَ ذلك تمامًا. هل تذكُر لعبك الأول وأنت طفل، ألفتك الكبيرة مع الشوارع وا

Allegro non troppo

Image
  Allegro non troppo الى أين قد تحملكَ الموسيقى؟ لا أعلم، لكن هاته المقطوعة مثلا، تحملك الى كل متناقضاتك. صدق من قال أنه يجب علينا الامتنان للموسيقى بالكثير، كيف كانت ستكون حياتي دون موسيقى؟ جحيمًا كبيرًا. تخيل أن أستعمل مترو الأنفاق النتن الصدأ الغبِر كل يوم دون موسيقى تصدع في أذني؟ او ان أتمشى في الحديقة الكبيرة القريبة من محل سكناي دون باخ أو هانز زيمر أو بوشناق ضاربة مرابض رأسي؟ سيكون ذلك كارثيا. للموسيقى قدرة سحرية على تحويل اليومي الى استثناء، وعلى تحويل المشاهد العادية الى لقطات من فلمٍ سنمائي. اليومَ، كالعادة، قمت بمحاولة لتجميل واقعي اليومي، ووضعتُ السماعات في أذني كي تزين الموسيقى المشاهد اليومية التي أراها، المتشردون النائمون على الطريق، سيارة البوليس وهي تلاحق بعض الهاربين، الفضلات الملقات على قارعة الطريق في كل مكان، وأركان المدينة الهائلة المرتفعة حتى ناطحات السحاب مطلة على الله محاولةً الحديث معهٌ مباشرة. تمشيتُ وتمشّيت، انعطفت مع شارع ميرتل الواسع، حيث تنتشر المطاعم والمقاهي والحانات على الجانبين،وكذلك مدخنو الماريخوانا الكُثر. في النهاية، الماريخوانا هنا ليست مباحة، لك

صبُّوا

Image
  لا أستطيع انكارَ كونِ أسوأ فتراتِ حياتي، كانت سنوات الطفولة وبداية المراهقة. حتى لو كانت الذكرى جميلة، في جُمليتها وكليتها، من ناحية النوستالجيا والذكرى والتذكر والصداقات العفوية البسيطة التي تتحول الى فانتازيا وردية بع د مضي سنوات، فان العوز والاحتياج كانا كبيرين بشكل مخيف. أتذكر ذهابي مع أمي للبنك في الصباح الباكر آخر كل شهر. كنا نستيقظ على الساعة السادسة والنصف صباحًا كي نذهب للبنك البعيد، لأنهم قد "صبوا" . من صبَّ ماذا؟ لم أكن أعلم. كل ما كنتُ أعلمُه، أنهم قاموا بصب أموالٍ لنَا، وأننا نستطيع تذوق اللحم نهاية الأسبوع هذا. كنتُ اسير مع أمي مسافة كيلومترين، من بيتنا في حي النور الغربي الى البنك وسط السوق المركزي بسيدي بوزيد، والسبب كان واضحا: دينارُ سيارة الأجرة غير موجودٍ تمامًا، وان وُجد، فقد ينفع في مآربَ أخرى. كنا نبلغُ البنك، كي تشير اليَّ أمي أن أجلس على احدى المقاعد الجانبية، وتذهب الى شباك الخدمات، كنتُ أسترق النظر محاولاً فهم ما يحصل، أحاول فهم تفاصيل المحادثة التي لم يكن يتناهى الى مسامعي شيءٌ منها. كانت أمي تخوض نقاشًا مع موظف البنك، صاحب النظارات السميكة والك

فودكا بالكرز

Image
 أ نا أفتقدني جدا. أنا هنا، ولست هنا، كل يوم. لقد وجدت وصفًا ممتازًا لما أشعر به في كتاب عبد المالك صياد "الغياب المضاعف"، حين تحدث عن معاناة المهاجرالشمال-افريقي، بين غيابه الكبير المكثف عن بلده، وبين غيابه الموجع الأكبر في بلد "الاستقبال" ( عن أي استقبال أتحدث؟). قال عبد المالك: أنت هنا، ولست هنا. أنت حي فقط في العطلة التي تزور فيها عائلتك. وأنت ميت أثناء احدى عشر شهرًا من العمل. أتعلم، من المؤسف والمؤلم فعلاً، أن لا يفهم أحد ذلك، ولن يفهم أحد ذلك أبدًا على ما أظن، وسط قوارب الموت/الحياة (أو محاولاتها) التي تغادر تونس كل يوم، وسط النداء الجماعي الكبير المتفق عليه نحو المغادرة الكبرى دون رجعة، واعتبار كل من يعارض ذلك مرتدا. يساوي احساسك بالاغتراب والمنفى هنا لاشيئًا، صفرًا كبيرًا، مزحة ممجوجةً ركيكة وسط العبث الكبير الذي يحصل في تونس. هل تريد cherry vodka؟ ماذا؟ انه مشروب بسيط ومعروف، خلط عصير الكرز مع الفودكا، كيف لا أعرفه؟ أنا صراحة، لا أعرفه. يوم كلاسيكي آخر من محاولة التطبيع مع الاغتراب، مع عدم معرفتك لأبسط الأشياء، بما في ذلك شراب الفودكا المخلوط بالكرز الأحمر