خالتي عيشة

 هاني بش نسميها خالتي عيشة، تحفظا على الهوية. أما مازلت نتذكر بلباهي عام الفين وستة ولا هي هي الفين وخمسة، كنت طفل صغير، نمشي مع اولاد حومتي، مفقّرون جميعًا وبعضنا حافي القدمين تحولت جلدة ساقيه الى نعل جاف يابس من كثرة السير، كي نعمل في "منشر" الطماطم، مجمع كبير يبعد عنا اربعة كيلومترات سيرًا شبيه بمعسكر الاعتقال، تحيطه الأشلاك الشائكة والكثير من الاسمنت.

كنا نقف، أطفالا تحت شمس الصيف الحارقة، كي يأتي سي عبد القادر، أو قدور كما كانو ينادونه، ويتأملنا، يجسنا، ويختار البعض ممن حالفه الحظ العظيم للعمل ذلك اليوم، أما البقية، فالله غالب، وعليهم اتخاذ مسلك العودة ذي الكيلومترات العديدة,
العمل؟ كنا نهزو قاجوات الطماطم، نحطوهم في جابية، بش زعمة زعمة يتغسلو، ومبعد يتقشروا، ومبعد يعبوانا معاهم في كماين، والطماطم هاذيكا لازمها تتنشر في شبك تحت الشمس بش تتشيح وتترحى ويقع تصديرها لايطاليا، كنا نعمل تحت الشمس لمدة ثمان ساعات، تسع أو عشر ساعات احيانا، لا رقيب ولا ضوابط، مقابل كم؟ خمس دينارات ونصف، نعم، وكثير من الصراخ والاهانة والسخرية. اتذكر جيدا احتراق اجزاء من جسدي بسبب الملح والماء الذي يقع تنظيف الطماطم فيه، الى جانب الروائح الكريهة والاطنان المكدسة من الطماطم في الصيف والحشرات والاحتراق بالشمس والكثير من الذباب والبعوض والبثور المخيفة التي تنمو على جسدك .
أتذكر أن عدد العاملات من النساء كان اكثر بكثير من الرجال، ثم تساءلت عن سبب ذلك، لأكتشف أن أجرهن كان لا يتعدى الاربعة دينارات في اليوم، لازلت لا اصدق كيف كنا نعمل من اجل ذلك الاجر، لاجد نساء تلك المنطقة الريفية يعملن نفس عدد الساعات من اجل اجر اقل، اربع دينارات في اليوم؟ ماذا كن يفعلن بذلك المبلغ الذي كان مضحكا حتى في ذلك الزمن؟
أذكر جيدا صراخ صاحب المعمل على النساء، شتمه لهن، ثم شتمه لنا، وعدم توانيه عن طرد أي شخص، حتى انه طرد احد الشبان حين اكتشف انه كان يرتاح قليلا من الانحناء لحمل صناديق الطماطم الثقيلة.
اما خالتي عيشة،فلا ازال اذكرها، حين كانت تغني اثناء العمل، كانت امرأة مسنة، ولم افهم لحد الآن كيف كانت تأتي بذلك الجهد والطاقة للعمل، تتحدث عن اعالتها لابنها المقعد، ولم نكن نعلم ان كانت لها عائلة او زوج او معيل آخر.
وكان لصاحب المعمل ابن طائش، لا يتواني عن شتم الجميع وافراغ ما يحس به من سلطة امامنا، حتى انه قام يوما ما باخراج اثاث بيت جلبه له ابوه مكان اجره كي لا ينفقه على شراء البيرة، وقام باحراقه امامنا جميعًا.
لازلت أتذكر جيدا أيضا كفاحنا اليومي من أجل الحصول على أجرنا بعد انتهاء العمل، كنا نقطع كامل المسافة بشكل يومي ونمضي يومنا في الانتظار، يأتي محاسب المعمل القصير بحقيبة جلدية، كان من منطقة الساحل، يمضي ساعات في مكتب صغير مخفي ، ثم يرحل، ولا نتحصل على تلك الدينارات القليلة الا بعد تكرر العملية لمرات ومرات.
أما ذلك الابن، ففي يوم ما حين كانت النسوة تنتظرن دورهن لعملية التعبئة كالحيوانات على متن سيارات الدفع الرباعي، فقد اقبل بسرعة جنونية بسيارته الرباعية وهو مخمور، ليصدم خالتي عيشة، ويقسم جسدها المسن شطرين دون مبالغة، وسط صدمة الجميع وهرب النسوة وسط الطريق والغبار والصراخ والعويل.
اما عيشة فماتت، واما الابن فلا أتذكر ان احدا ما حاسبه، بل عاد بعد اسبوع فقط للصراخ والقفز في كل مكان.
اتذكر ان أهالي المنطقة لم يصمتوا عن اذلالهم المتواصل بين الفقر والعمل المهين، فتسلل بعض الشبان ممن قام عبد القادر بطردهم،ليلا، وقاموا بشق جميع الشباك التي توضع عليها الطماطم لتجفيفها بسكاكينهم ، والتي يقوم صاحب المعمل باستيرادها بآلاف الدينارات. رايت الفرح المسروق السري يتسلل لكل شخص يعمل حين اكتشف عبد القادر عملية "الانتقام" ، واخذ يرغي ويزبد ويتخبط وسط الجميع.
قام هو بيده بالانتقام منا بعد ذلك، فأرسل نفرا من أبناء عمومته( تظاهر بعدم معرفته بالأمر لكننا اكتشفنا التنسيق بعد ذلك) كي يقوموا باعتراض سبيل كل شخص تقاضى أجر عمله الطويل وسلبه جميع امواله، حالفني الحظ انني كنت مع مجموعة متاخرة، اتصل أحد منهم بقريب له اتى بشاحنة كبيرة قام بملئنا على متن مؤخرتها كالعادة كالدواب، كنا قرابة العشرين شخصا، حاول الرجل شق صفوف العصابة التي كانت على جانبي الطريق، لينهال علينا الحجر الصلب من كل صوب، تمددنا جميعا على السطح الحديدي المشتعل بفعل القيظ، وانتقم منا قاطعوا الطريق باصابة البعض في راسه، لكن ذلك كان افضل بكثير من سلب كل ما عملت من أجله صيفا( لم يكن المبلغ يتجاوز المئتي دينار، لكنه كان كل ما املك حينها).
اي، هذيكا هي سيدي بوزيد كيما مئات المناطق الأخرى في تونس ، دواخل تونس وهوامش مدنها لي تتغششو من عبادها حين تحتج وترفض، وتعطل سير العمل، لانكم لا تعيشون نفس الحياة، بل تكتفون في اقصى الحالات بمشاركة صور الحوادث التي تحدث منذ عشرات السنوات بعد ان منت عليكم التكنولوجيا بالفايسبوك مع بعض الدموع، ثم تمضون لبقية يومكم.




Comments

Popular posts from this blog

هلع

وِحدة

سفر