تحت الضغط

 

علاقتي بالعمل كانت، ولازالت، ملتبسةً ومريبةً جدا.

حين كنتُ في أول سنوات مراهقتي، كنتُ أتحين أول فرصة كي أستطيع العمل فيها، كي أبرهن لوالدتي و أقراني أنني قادر على "الإنتاج"، على "العمل" وبيع ساعات حياتي مقابل مليمات قليلة٫ وربما، إحداث فرق ما في هذا العالم، وأنني لست فردًا مستهلكًا فقط. كل ما أردتهُ كان هاتفًا جوالا وبعض الأدباش ونظارات شمسية رخيصة من الحي التجاري في أقاصي مدينة سيدي بوزيد، وجالاً أثبّت به شعري الكثيف المجعد. كل ذلك كان يتكلف دنانيرًا معدودة لكنني لم أكن أملكها، وكان يتوجب عليّ إيجاد عملٍ بأية طريقة في مدينة تتربع على عرش البطالة.

تحصلتُ على فرصة للعمل أول مرة حين كنت أبلغ الرابعة عشر، في مطعم كبير معروف وسط المدينة. كان "مطعم كمال" إحدى أكثر المطاعم اكتظاظًا في المدينة على مدار اليوم، منذ السادسة صباحًا حين يقدم الناس والفلاحون من الريف من أجل صحن الشربة ( شربة حارة على السادسة صباحا، نعم) ، الى حدود السادسة مساءً حيث يبدأ الناس في مغادرة وسط المدينة وإغلاق المحلات التجارية ومراكز عملهم وجميع الإدارات الصغيرة المتراصة جنبًا الى جنب في مدينة صغيرة جدا نسبيا، هذا الى جانب يوم السبت، يوم انتصاب السوق الأسبوعية، حيث يتحول المطعم الى مكان مجنون تمامًا.


كنت سعيدًا جدا بعد أن اخبرني احد الاصدقاء من حيّنا أن كمال يبحث عن "فتى" يساعده على أشغال المطعم المكتظ، كي اذهب الى المطعم الكبير، وأبدأ العمل من السادسة صباحا الى السادسة مساءً، مقابل أربعة دنانير في اليوم، تحصلت عليها بعد بعض المفاوضة من كمال الذي أراد أن ينقذني ثلاثة دنانير ونصف كأجرة يومية.

كانت الصحون تتراص دون نهاية، كسكسي و كفتاجي وشربة وبريك وحوت مشوي ولوبيا وسلاطة ومقرونة وكمونية وسلاطة مشوية وطرشي وراس علوش ومشوي واطعمة ومشروبات اخرى دون نهاية. كان المطعم يمتلأ بالرواد دون أي توقف، كنت أعدو بأصحن ممتلئة ثم أعود بها فارغة، كان "التهامي"، طباخ المطعم صاحب البطن الكبيرة والشارب الضخم، لا يتوقف عن السباب والشتم، وهو يحترق داخل مطبخه الداخلي ويدفع الأطباق دفعًا نحوي من خلال فتحة صغيرة، كي أذهب بها نحو الزبائن. 

رأيت الكثير ممن اعرفهم بحكم انني في مدينة/قرية صغيرة، اصدقاء المدرسة الاعدادية والإداريون، بعضهم نظر لي شزرا وبعضهم تجاهلني وبعضهم ضحك، حتى أتى يومًا ما، أستاذ مادة الفيزياء، مع اصدقائه ورآني في المطعم أسئلهُ عما يريد تناوله على الغداء.

أصابه دون أن أتوقع ذلك غضب شديد، وذهب نحو صاحب المطعم ودخل معاه في شجار فوضوي، صارخًا: "أنت تشغّل طفلاً هنا، هل تقبل بأن يعمل ابنك في هاته السن معك؟" . أصابته حالة من الاضطراب الشديد، فتوجّه نحوي٫ أمسكني من كلتا كتفي وهو يقول: " هل تريد العمل هنا؟ كم تعمل من ساعة في اليوم؟ كم هو اجرك؟ هل تريدني ان اتصل بمندوب حماية الطفولة؟ أخبرني! لا تخف!"

 

أجبته ببساطة وبراءة شديدتين: " مسيو، نحب نخدم، بربي."


غادر حانقًا ولم أره بعد ذلك اليوم، كما غادرتُ بعده بسبب غضب كمال لاتساخ ميدعتي البيضاء بالزيوت والدهون دون انتباه مني، وان ذلك قد يثير "تقزز" الحرفاء.


عملتُ بعد ذلك في حفر الآبار مع صديق آخر مطحون مثلي، كنا نقضي كامل اليوم في استعمال درجات البئر الخطيرة الحديدية الصدئة غير المهيئة، نربط الأسلاك الكهربائية ببعضها، ونربط آلة الحفر بالكهرباء وسط الظلام والماء والبرد، كان ذلك مخيفًا جدا لي، وكنت أتقاضى أربعة دنانير عن عمل اليوم الواحد، ولكن ذلك العمل كان الوحيد المتاح. 

حاولتُ بعد سنة، العمل في مقاولات البناء، لم أنجح في ذلك بسبب هزالي الشديد، فاقتصر الأمر على غربلة التراب مع بقية العمال، كانوا يدخنون كثيرًا ويتحدثون كثيرا ويشربون الكثير من الشاي الأحمر. لم أقدر على مجاراتهم أبدًا، واكتفيت بمصارعة التراب والهواء ومحاولة غربلته.

كنت أقوم بالغربلة مع طفل آخر يسكن بجوارنا فوق سطح البيت الذي تتم فيه الاشغال، الى ان أرسلني بعض العمال الأكبر مني سنا كي اشتري سجائر لهم، ويعترضي استاذي في المسرح وأنا ممتلئ غبارًا وترابًا. استغرب بشدة ايضا عملي في أشغال البناء على صغر سني وهزالي الشديد، لكنه مضى في حاله بعد أن رأيتُ بعضًا من خبية الأمل في عينيه، تذكرت تمارين المسرح الكثيرة التي قمنا بها معًا. كانت حصة المسرح التي تتم مرة فقط في الأسبوع أفضل ساعتين في البرنامج الدراسي برمته، كنا نحس بالحرية ، والفرح، والانطلاق، وكان أستاذ المسرح هو الاستاذ الوحيد الذي ينطلق معنا في فذلكة طويلة، ومزاح غير متكلف، دون  خوفٍ من العقوبة أو الغطرسة التي سادت معظم اساتذتنا.

انتهت أشغال البناء مع انتهاء الصيف والعودة للدراسة، وبحثت عن عملٍ موال في الصيف الذي يليه، كي يأتي عذاب العمل في معمل الطماطم الواقع في أقاصي ريف بوزيد والذي لا زلت أعتبره معسكرًا كبيرًا للاعتقال.

كان الأجر أفضل بقليل، خمسة دنانير ونصف عن عشر ساعات من العمل اليومي تحت شمس الصيف الحارقة. كنا نحترق بكل ما للكلمة من معنى، كان علينا انزال أطنان من الطماطم التي تأتي في شاحنات ضخمة في جابية الماء المليئة بالملح، جعل ذلك جلدي يحترق تماما بفعل الملح والماء والشمس، لم أعد أستطيع قادرا حتى على المشي بشكل طبيعي. كانت ظروف العمل رهيبة، حيث يحاصرك صاحب المعمل أو المنشر كما كنا نسميه وصراخه لا يتوقف من جهة، بينما يصرخ بقية معاونيه من جهة أخرى كلما تراخيت قليلا في العمل. 

يقع وضعنا في شاحنات الترصيف كالحيوانات، وأخذنا الى شباك كبيرة واسعة نرمي فيها الطماطم المغسولة كي تجف وتتحول الى شرائح يقع استعمالها وتصديرها الى إيطاليا. نشبت العديد من المعارك بين شقين: شق المدينة أو "السوق" وشق الريف أو "قمودة" ، حيث كان المعسكران على خلاف طويل بسبب توترات وترسبات قديمة، تعرضت للّكم والركل  مرات كثيرة، ودافعت عن نفسي في مرات أخرى، كي نعود جميعًا للتصالح في النهاية، ويجمعنا العمل والقهر والفقر، أكثر من الاختلاف والشجار والصبيانيات. أحسست أن صاحب المعمل كان معجبا بذلك نوعا ما، كان يريد منا ان نتشاجر، أن لا نتحد، كي يظل محافظًا على سيطرته القوية علينا.


كنا نحارب كي نعمل كي يوم، حيث يختار صاحب المعمل عدد العمال حسب السلعة المتوفرة بشكل يومي، لذلك قد نقطع الكيلومترات الثلاثة كل يوم وسط الظهيرة ثم نعود الى بيوتنا خفي حنين، الى جانب حربنا من أجل حصولنا على أجرنا، فقد كان صاحب المنشر يماطل بشكل رهيب عملية تسليمنا أجورنا، حتى أننا ننتقل الى منشره كل يوم لكيلومترات عدة لمدة أسبوع للحصول على اجرنا. 

أتذكر أنني حصلت على مائتي دينار، كنت سعيدًا بها أية سعادة، واشتريت بعض الادباش ونظارة وهاتفا جوالا مستعملا، توقف عن العمل بعد أسبوع بالضبط، فرميته في سلة المهملات وسط بكائي الشديد.


حاولت الابتعاد عن الأعمال اليدوية بعد ذلك لأنها شاقة جدا ولأن جسمي كان لا يحتملها، فاستطعت العمل في إعلامية في آخر نهج في حينا قبالة المدرسة الإعدادية، وكانت تلك الجنة الموعودة بالنسبة لي. استطعت استعمال الانترنت دون توقف لمدة عشر ساعات يوميا، وكانت تلك اول مرة استعمل فيها الفايسبوك واليوتيوب عبر برامج اختراق معينة تتيح لي الولوج للكثير من المواقع المحجوبة من قبل النظام.

تعرضت الى هجوم مخيف من الاصدقاء وابناء الحي، حيث اتى جميعهم من اجل "انترنت مجانية"، كنت أتيح لهم استعمال الحواسيب دون أن يدفعوا شيئا، وذلك بسبب خجلي وبسبب رغبة دفينة لي في التمرد على سلطة صاحب المحل الذي كان متغطرسًا بشكل مقزز. الدين لله والانترنت للجميع.

انتقلت بعد ذلك لصفاقس ثم تونس ، حيث عملتُ حين كنت طالبا في مركز للنداء لمدة سنتين تقريبا كي استطيع تسديد مصاريف الكراء وترسيم الجامعة، مع تحين الفرصة لأكل صحن من الكفتاجي احيانا عوض طبق المطعم الجامعي المثير للاشمئزاز. أصابني العمل في مركز النداء بصداع مزمن، وارهاق شديد، والم في الظهر والأذنين والعنق، حيث أصبحت عبارات البيع والشراء تتردد كل ليلة في رأسي، وتحول النوم إلى مهمة صعبة متعبة.


حتى عملي بعد تخرجي، كان مرهقا جدا لصحتي العقلية: العمل في مراكز استماع لمنظمات المجتمع المدني وهيئات حكومية: ضحايا الفساد والتعذيب وانتهاكات حقوق الإنسان. قضيت قرابة الأربع سنوات وأنا أستمع وأستمع وأستمع دون توقف الى ملفات الفساد والرشوة والتهرب الضريبي والتعذيب والسحل والاغتصاب والقتل المستراب داخل مراكز الشرطة والتعنيف الشديد من قبل قوات الأمن والمراقبة الإدارية و الهرسلة والتتبع والسجن والتعذيب. حتى اصبحت اشعر بألم أسفل رأسي لا يفارقني، حتى أصبحت الكوابيس وانقطاع عملية التنفس لي أثناء النوم جزءًا من حياتي اليومية إلى يومنا هذا، وأصبح النوم المسترسل المستمر الجميل العميق حلمًا بعيدًا فقدت الأمل في عيشه يومًا ما.


احس ان العمل بشكل عام قد قام بالاعتداء على روحي وجسدي وذاتي دون توقف لعشرين سنة، لقد أرهقني ارهقني واتعبني واستنزفني حتى المرض والبكاء الشديدين، لقد جعل من حياتي أصعب وأكثر حزنا،  اعتدى على صحتي وهزالي وهشاشتي وجعلهم جميعًا أكثر تأثيرًا علي، حتى أصبحت فكرة العمل بالنسبة لي من أجل مجرد العيش كابوسًا كبيرًا.

من المضحكات المبكيات، أنه بعد هاته المسيرة الطويلة من الأعمال الشاقة المخيفة الشبيهة بمعسكرات الاعتقال، والتي تحولت فيها اصابعي الى حجر متكلس، وظهري الى عصا جافة يابسة، تسألني مديرة شركة في أحد المكاتب الوثيرة في منهاتن على الطابق الأربعين مع اشتغال جهاز التكييف الوثير ودورانها فوق الكرسي الجلدي المريح الناعم أثناء مقابلة عمل : " هل أنت قادر على العمل تحت الضغط؟"


هل أنا قادر على العمل تحت الضغط؟؟؟


انسابت مني ضحكة، فعلاً، كانت تلك الاجابة الوحيدة الصادقة التي فلتت مني دون تحكم. العمل تحت الضغط سيدتي؟ هل تستطيع إعادة صياغة سؤالك من فضلك : هل تستطيع العمل والعودة لبيتك حيا في نهاية اليوم؟

نعم، أستطيع، وقمت بذلك : لقد نجوت من الموت عدة مرات، في كل يوم عملتُ فيه حتى أعيش.





Comments

Post a Comment

Popular posts from this blog

هلع

وِحدة

سفر