صبُّوا

 لا أستطيع انكارَ كونِ أسوأ فتراتِ حياتي، كانت سنوات الطفولة وبداية المراهقة.

حتى لو كانت الذكرى جميلة، في جُمليتها وكليتها، من ناحية النوستالجيا والذكرى والتذكر والصداقات العفوية البسيطة التي تتحول الى فانتازيا وردية بع
د مضي سنوات، فان العوز والاحتياج كانا كبيرين بشكل مخيف.
أتذكر ذهابي مع أمي للبنك في الصباح الباكر آخر كل شهر. كنا نستيقظ على الساعة السادسة والنصف صباحًا كي نذهب للبنك البعيد، لأنهم قد "صبوا" . من صبَّ ماذا؟ لم أكن أعلم. كل ما كنتُ أعلمُه، أنهم قاموا بصب أموالٍ لنَا، وأننا نستطيع تذوق اللحم نهاية الأسبوع هذا.
كنتُ اسير مع أمي مسافة كيلومترين، من بيتنا في حي النور الغربي الى البنك وسط السوق المركزي بسيدي بوزيد، والسبب كان واضحا: دينارُ سيارة الأجرة غير موجودٍ تمامًا، وان وُجد، فقد ينفع في مآربَ أخرى.
كنا نبلغُ البنك، كي تشير اليَّ أمي أن أجلس على احدى المقاعد الجانبية، وتذهب الى شباك الخدمات، كنتُ أسترق النظر محاولاً فهم ما يحصل، أحاول فهم تفاصيل المحادثة التي لم يكن يتناهى الى مسامعي شيءٌ منها. كانت أمي تخوض نقاشًا مع موظف البنك، صاحب النظارات السميكة والكرش الكبير وربطة العنق القبيحة والشعر المجعد الرمادي غير المصفف. لازلت أتذكر تفاصيل وجهه جيدا، وسحنته المخيفة حين كنتُ طفلا. لو أراه اليوم، للكمتُه بأقصى ما أملك من قوة. ولقلتُ له: أنا لازلت أكره البنوك جميعًا.
كانت النتيجة تختلف حسب السياق، أتذكر جميع السيناريوهات التي عشناها ومررنَا بها: أحيانًا، كانت أساريرُ أمي تتهلَّل ووجها الوردي يشرق، وأرى البنكاجي يضع بضع وريْقات نقدية على آلة العد الآلية، كي تتسلمها أمي، وتقبل نحوي، هامسة :
الحمدوله، صبوا.
كنتُ أبتسم، لم أكن أفهم فعلا ماهية "الصبان" الذي تتحدث عنه أمي، لماذا قد يرفضون "الصبَّ" ان كانت تعمل كل يوم في المدرسة، وتقوم باصلاح الامتحانات واعداد الدرس في الليل، الى جانب الطي والكي والغسل وادارة منزل كبير متكون من خمسة أبناء؟
كنا نتوجه بعد الخبر السعيد الى السوق المركزية الملاصقة للبنك تقريبًا، كي تشتري أمي بعض الخضراوات، ونحتفل بمناسبة الصبان، فتشتري لنا دجاجة مشوية مع بعض البطاطا المقلية، وكنا نقتسمها، نحن الستة، في أجزاء صغيرة مضحكة. لكننا كنا نفرح فعلاً بذلك، وكانت قضمة الدجاج المقلي أو المشوي تساوي الدنيا لدي. الى جانب ابتسامة امي العريضة، وهي تتأمل فرحنا الوقتي الذي لن يتجاوز يومًا واحدًا.
في أحيان أخرى، لم يكن الخبر سعيدًا، ولكنه لم يكن حزينًا أيضًا. كانت أمي تخطو خطواتها البطيئة نحوي، فأحاول الظهور بمظهر الذكي، سائلاً:
صبوا؟
لا، مصبوش، أما وافقولي على سلفة.
بلغت أمي مرحلة الابتزاز البنكي، حيث كان البنك يبتلع كل اجرها الشهري بتعلة خطايا التأخير و "الروج" والقرض الشخصي والقرض السكني والقرض القزوردي ، كي تجد صفرًا في حسابها البنكي، و"يحن" البنكاجي بسلفة، تجعلها تحت الصفر الى الشهر الموالي.
كانت هناك أحيان أخرى أكثر بؤسًا، وأكثر حزنا، حين تطول المحادثة ويحتد النقاش أحيانا مع موظف البنك العتيد البَليد.
تخطو أمي بعدها خطوات بطيئة حزينة. تحتبس الكلمات في حلقي، ولا أستطيع التفوه بكلمةٍ، لكنها تهمسُ:
ما صبوش.
نتمشى، بعد ذلك، من البنك الى بيتنا مسافة كيلومترين، خفيْ حُنين، كي ندخل في فترة تقشف طويلة ومرابطةٍ ورباطٍ حول المقرونة الجارية الكذابة، والحلالم، والمقرونة مرة أخرى، واللوبيا احيانا، الى أن ينقضي الشهر.
لازلت لا أعلم كيف كانت تقوم امي كل مرة بانقاذنا، ما كانت تقوم به كان شبيهًا بالمعجزة، حيث يمر الشهر دون ان نجوع، على الرغم من الشظف الشديد، ومن الفقر البادي على كل تفاصيلنَا. لازلت أتذكر جيدا حيرتنا حول ميدعة العام الجديد، وعدم قدرتنا على شراء واحدة لي للسنة السادسة. طُفنا كامل السوق وكانت أرخص ميدعة تتجاوز الخمسة عشر دينارًا، الى أن عثرنا بضربة حظ، على ميدعة في أحد المحلات المنزوية، كانت ميدعة مضحكة بسلسلة ضخمة بلاستيكية، ولكن ثمنها كان خمسة ديناراتٍ فقط. تحولت من اللون الأزرق الداكن الى اللون الباهت الفاتح بعد الغسيل الاول، وفسدت سلسلتُها منذ الشهر الأول، وتحولت الى ما يشبه كومة الكرتون او الورق المقوى، لكنها ميدعة عزيزةٌ جدا على قلبي الى اليوم.
عملتُ في احد مصانع تحويل الطماطم محاولا توفير مصروف الدراسة، الا ان اطراف جسدي قد احترقت حرفيا بمفعول الماء والملح الذي يقع تنظيف الطماطم فيه، ثم حاولت العمل مع جار لنا في حفر الآبار، فكان الخوف الأكبر حين النزول والصعود للبئر المحفورة حديثا وتركيب محرك كهربائي دون أي اجراء سلامة، وتلته اعمال اخرى في البناء وحانوت الاعلامية والمطعم الكبير الذي طردني صاحبه متعللا بأنني لا أحسن "تقشير" البطاطًا بسرعة. لازلتُ اتذكر ذلك بكل تفاصيله، وأضحك، محاولا دفن رغبتي في البُكاء.
كان الفقر قاسيًا، قاسيًا جدا، وظالما ومتعبًا وقاهرًا للكبار والأطفال والمراهقين، لكن أمي كانت جدار صد منيع، تتلقى الضربات عوضًا عنا، وتأتينا الصدمات مخففة حتى اننا قد لا نحس بها، الا انها تضرب جوارحنا وقد تركت فيها كدمات عميقة الى يومنا هذا.
في اليوم الذي رأيت فيه دمع امي ينزل حين لم تجد مليما واحدًا في حسابها البنكي، وعدنا الى البيت دون أي شيء، أدركتُ أننا فقراء، فقراءُ حقيقيون، وأنه يجب علينا التعامل مع ذلك.
حين أشتري اليوم سندويتشا من اللحم لا يتجاوز الدولارين، أنظر اليه طويلاً، بتقزز شديد، ثم أفكر في براءة الطفل الذي كنتُه:
لو كانت لي القدرة على العودة بالزمن، لاشتريتُ عشرَ سندويتشات مثلَ هذا، واخذتها معي الى عشرين سنة مضت، الى امي واخوتي وحمادي الصغير، ولجلستُ معهم، متأملاً فرحهم بذلك، ولضحكت.

Comments

  1. i discovered that you're not only a pure soul , but a pure artist .
    couldn't hide my tears at the end of the text .
    قُبلة لروحك الجميلة .

    ReplyDelete
  2. كم يظل الألم دفينا فينا و تغوص عروقه في أعماقنا...و تظل مهمتها في هذه الدنيا إقلاع هذه الجذور و تحريره من أسرنا ليصل عنان السماء...

    ReplyDelete
  3. مهما حاولنا يبقى ماضينا والطفل الصغير المقهور المتألم بطرق مختلفه فينا يطاردنا دائما .. حمادي الصغير سيسعد يوماً ما حين يقرر حمادي الكبير ذلك .. محبتي لقلبك ♥️♥️

    ReplyDelete
  4. أعلم بأنك أبكيت شخصا ما بعيدا آلاف الكيلومترات، نبشت جروحًا دفينة و ذكريات جميلة رغم الحزن و القسوة. دمت شامخًا

    ReplyDelete

Post a Comment

Popular posts from this blog

هلع

وِحدة

سفر